الاثنين، 29 نوفمبر 2010

الــرضـــا مـســتراح الــعــارفـــين

الرضا...مستراح العارفين
بقلم الشيخ/ أسامة حافظ
"ماذا يفعل أعدائي بي إن جنتي وبستاني في صدري .. حيثما سرت فهي معي .. فإن قتلوني فقتلي شهادة .. وإن سجنوني فسجني خلوة.. وإن نفونى فنفى سياحة".
ما أكثر ما تقلبت الأقدار بشيخ الإسلام ابن تيمية.. وما أعظم ما كان يلقاها به من رضا سكنت به نفسه واطمأن به قلبه .. بل وفاض من رضاه وسكينته علي غيره .
خرجت نفسه من حظوظها ورغباتها وآمالها لتأوي إلي مظلة عرش الرحمن وقصده ومراده .. فاستوت عنده الشدة بالرخاء.. والضيق بالسعة.. والفقر بالغني .
تأمل هذه العبارة الرائعة التي حفظها التاريخ عنه .. وانظر كيف تحول البلاء عنده إلي منحة ربانية لعظيم رضاه عن خالقه واستسلامه لقضائه.
ثم انظر كيف كان سكونه ورضاه يفيض علي تلاميذه ومحبيه فيستمدون من سكينته سكونا ومن رضاه رضا.
يقول ابن القيم أنهم كانوا إذا اشتد عليهم السجن – وما أكثر ما يضيق قلب المسجون بشدة الحبس – يذهبون إليه في محبسه فيسكن برؤيته ما في نفوسهم ويذهب ما بهم.. ثم يقول رحمه الله عبارة جميلة معبرة " فسبحان من أري جنته لعبادة في الدنيا "
فالرضا هو جنة العبد في الدنيا.. ومستراح العارفين.. وحياة المحبين.. وقرة عيون المشتاقين .. وهو مفتاح السعادة الوحيد في الدنيا والآخرة.
والآن .. ما هو الرضا ؟
وكيف يدركه السائر علي طريق الله ؟
يقول ابن عطاء
" الرضا سكون القلب إلي قديم اختيار الله للعبد.. أنه اختار له الأفضل فيرضي به "
ولكن ابن القيم لا يعجبه ذلك إذ يري فيه أنه رضا منقوص .. إذ أنه راض بما يناله منه سبحانه من حظوظ النفس.. أما مرتقي منزلة الرضا وذروته فهو أن يرضي به .
يقول رحمه الله معلقا ً علي القول السابق :
" هذا رضا بما منه .. أما الرضا به فأعلي من هذا وأفضل .. ففرق بين من هو راض بمحبوبه.. ومن هو راض بما يناله من محبوبه من حظوظ نفسه"
فالرضا بالله هو ألا يري لنفسه سخطا ولا رضا فيفني بربه عن نفسه وعما منها قد غيبه شاهد رضي الله بالأشياء في وقوعها علي مقتضي مشيئته عن شاهد رضاه .. فهو يستوحش من نفسه ومن صفاتها ومن رضاها ومن سخطها .. فهو يرضي عن ربه بربه لا بنفسه .
وطريق الرضا يبدأ بالمعرفة وهو ثمرة من ثمراتها.. كما يقول ابن الجوزي.
"فإنك إن عرفت الله رضيت بقضائه .. وقد يجد العبد في ضمن القضاء مرارات يجد طعم بعضها .. لكن العارف تقل عنده المرارة لقوة حلاوة المعرفة.. فإذا ترقي بالمعرفة إلي المحبة صارت تلك المرارة في قلبه حلاوة".
ويضيف:
" ومن ذاق طعم المعرفة وجد طعم المحبة فيقع الرضا بالضرورة "
وفي الحديث:
" إن الله تعالى قال: من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب.. وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه .. ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر فيه ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعـطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه "
وهذا هو الغني الأكبر
وطريق الرضا يبدأ بالصبر " إذا أحب الله عبدا ابتلاه .. فإذا صبر اجتباه.. فإذا رضي اصطفاه "
فمن صبر علي البلاء الصبر الجميل - وهو الصبر الذي لا شكوى فيه - فقد وضع قدمه علي أول طريق الرضا إذ يجتبي الله الصابرين ويصطفيهم بما صبروا ليجعلهم من أهل الرضا .
فالعبد في مقام الرضا محفوف بنوعين من الرضا كما يقول ابن القيم .. "رضا قبله أوجب رضا الله عنه.. ورضا بعده ثمرة لرضاه سبحانه" .
وحسن التوكل علي الله رافد آخر من روافد الرضا .. فمن رسخت قدمه في التوكل والتسليم والتفويض حصل له الرضا وغاص في نعيمه .
وبعد...
قد كنت أقرأ هذا الكلام وأحسب أنني عرفت بقراءتي هذه معناه.. ولكن الحقيقة أن معرفة أحوال العارفين لها معني آخر .
ففارق بين من يعرف العسل من خلال وصف الثقاة له .. أو من خلال رؤيته في أيدي الناس وبين من وضعه في فيه واستمتع بحلاوته .
لذلك فإن أهل الطريق كانوا يقولون "من ذاق عرف" وهم يسترشدون بهدي النبي صلي الله عليه وسلم وهو يتكلم عن حلاوة الإيمان.. وكيف أن ذائقها هو ذلك الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلي الله عليه وسلم نبيا ورسولا .
وهكذا شهدت معني الرضا وأحسست بالمعني الجميل الذي عناه شيخ الإسلام الذي أشرنا إليه آنفا .. وذلك من خلال مشاهدة كثير من إخواني طوال محبسنا الطويل – 20 سنة – نتقلب بين شتي الأقدار والابتلاءات بما فيها من رخاء وشدة .
لقد كان كثير من إخواننا – متعهم الله برضاه – لا تتغير ملامحهم الهادئة المطمئنة بتغير الأحوال .. فلا تري عليهم مظاهر ضيق ولا جزع ولا ضجر رغم ما تعرضوا له من أهوال.. فقد أنعم الله عليهم بسكينة وطمأنينة ورضا ملأت جوانحهم وملكت عليهم أنفسهم.. فلا يقلقهم من أمور الدنيا شيء ولا يؤلمهم من بلائها شيء مهما اشتد .. ولا يكدر صفاءهم مكدر.. هم كثير روضوا أنفسهم بالصبر والتوكل حتى رضيت نفوسهم بالله ثم رضيت عن الله فاستراحت من كدرات الدنيا ورضيت بمراد الله فيهم .
ومنهم بالطبع.. بل ومن أصفاهم كان الأخ عبود والأخ طارق " فإنك لا.. تستطيع ساعتها أن تتذوق مقولة ابن تأوي إلي مهجع أحدهم إلا وتشعر أنك انتقلت من صحراء قاحلة إلي واحة فيها الراحة والسكينة والخضرة اليانعة والماء السلسبيل تيمية " لو كان في الجنة بعض مما نحن فيه لكفانا "
فقلبه ونفسه من قوة المعرفة وحسن التوكل لا يشعر بألم البلاء .. وإنما يشعر بحلاوة المحبة ونعيم الرضا .
فأهل الرضا في الدنيا هم الذين ذاقوا نعيم الجنة قبل دخولها .. فأهل الجنة ينالون قمة عطاء الله لهم بعد أن يستمتعوا بصور النعيم ويفرحوا بها فيعطيهم سبحانه ما هو خير من ذلك كله.
" ... أحل عليكم رضواني فلا أسخط بعدها أبدا "
فاللهم اجعلنا من أهل رضاك في الدنيا والآخرة
الاثنين الموافق
24-11-1431هـ
1-11-2010م


الإسم محاسب/ احمد عبداللطيف الزمر
عنوان التعليق
رحـم الـلـه مـن إقـتـدى واهـتـدى
الأخ الشيخ/ أسامه حافظ ... تحية إعتزاز وتقدير .. وبعد هكذا أنتم ياأصحاب الرسالة تعشقون كمال التضحية حتى تسعد قلوبكم بلذة العطاء والبذل ؛ ومحنة السجن لا تخدش ثباتكم ولا تنال من عزيمتكم إلا كما ينال الغبار من ضوء الشمس ؛ فأنعم وأكرم بهذه القلوب النبيلة ؛ إنها قلوب محصنة لا تخترقها الأهواء وتأبى الإنكسار أمام الريح الهوجاء ؛ ورحم الله من إقتدى واهتدى ؛ ونحسبك والشيخين عبود وطارق على خير ولا نزكى على الله أحدا ً هو أعلم بمن إتقى والحمد لله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق